فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن المرأة هنا، قلقة في بيت الزوجية، لا تجد سكينة النفس، ولا أنس الروح. سواء أكان ذلك الشعور ناجما عن سوء تقديرها وتفكيرها، أو واردا عليها من سوء تصرف الرجل معها وسوء عشرته. إن الأمر سواء.
فهى- على أي حال- غير مستريحة إلى زوجها، وغير مطمئنة إلى الحياة معه. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {خافَتْ منْ بَعْلها}. فالخوف هنا، هو الشعور بالقلق، وعدم الاستقرار والاطمئنان. وفي قوله تعالى: {نُشُوزًا أَوْ إعْراضًا} ما يكشف عن وارد هذا الخوف، الذي تجده المرأة، وهو إما أن يكون عن نشوز منها هى، ونفور من الحياة الزوجية، وإما أن يكون من إعراض الرجل عنها، ونفوره منها.
هذه هي صورة تلك الحياة الزوجية التي تشير إليها الآيات، وهذا هو إحساس المرأة بها، وشعورها نحوها. أما شعور الرجل وإحساسه هنا، فلا معتبر لهما، لأن في يده ما يحسم به أمره، ويأخذ به الوضع الذي يستريح إليه، وهو الطلاق!.
والسؤال هنا: ماذا تملك المرأة إزاء هذا الشعور الذي تعيش به في بيت الزوجية؟ وهل أعطاها الإسلام من الحق ما تملك به التصرف بمقتضى الشعور؟.
ونعم، نعم. فإن الآيات صريحة في أن تأخذ المرأة الطريق الذي تختاره، وأن لها أن تفارق زوجها، إن لم يكن برضاه، فلولىّ الأمر أن يطلقها عليه. ففى قوله تعالى: {وَإنْ يَتَفَرَّقا يُغْن اللَّهُ كُلًّا منْ سَعَته} فهذا التفرق هو عن رغبة المرأة التي عرضت الآيات مشاعرها، وما تجد من ضيق، وقلق، وخوف.!.
وليس الذي حملته الآيات من علاج للأمر قبل حسمه بين الزوجين بالطلاق، وذلك بما يجرى بينهما من مناصحة ومصالحة، واستدعاء لمشاعر الخير فيهما- ليس هذا إلا حرصا على هذه الرابطة المقدسة، وإبقاء على مشاعر المودة والرحمة التي من شأنها أن تكون على أتم صورة وأعدلها بين الزوجين.
وقد جاءت السنة المطهرة شارحة عمليا لما جاء به القرآن الكريم، في هذا الأمر. فأعطى النبي الكريم المرأة حقها في الطلاق من زوجها، إذا هي لم تردّ الحياة معه.
روى أن جميلة امرأة ثابت بن قيس، جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت يا رسول اللّه: «لا أجد في ثابت بن قيس عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد في طوقى مجاراته» فسألها الرسول الكريم، هل تعيد إليه حائطه أي بستانه الذي جعله صداقا لها. إذا هو طلقها؟ فقالت نعم، فأمر النبي بردّ الحائط إلى ثابت، وتطليقها.
وبهذا التدبير الحكيم تتعادل كفتا الميزان للحياة الزوجية، وبهذا التعادل، يتم التوافق، والتواد، ويجد كل من الزوجين معنى السكن الذي أشار إليه قوله تعالى: {وَمنْ آياته أَنْ خَلَقَ لَكُمْ منْ أَنْفُسكُمْ أَزْواجًا لتَسْكُنُوا إلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (21: الروم).
هذا، والمناسبة الداعية إلى هذا الموقف الذي وقفه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من أزواجه، وخيّرهنّ فيه بين الحياة معه، إيثارا للّه ورسوله، وبين الحياة المطلقة من رباط الزوجية- المناسبة الداعية إلى هذا هو ما فتح اللّه على النبي والمسلمين في غزوة الخندق، بما ساق إليهم من غنائم اليهود، من بنى قريظة وبنى النضير، بعد أن ردّ اللّه عنهم الأحزاب خائبين خاسرين.
وهنا أمام هذه الغنائم الكثيرة، تتحرك شهوات النفوس، وتتدافع الرغبات، وتتطلع العيون. إنه المال الكثير، من جهة، والحرمان الشديد، من جهة أخرى. وإنها الفتنة، تطل برأسها على الناس، وتلقاهم على جوع بالغ، وحرمان طويل. والناس هم الناس. أيّا كانوا. فلن تموت فيهم توازع الحياة، وحب البقاء، ولن يختفى من كيانهم ما ركب في فطرتهم من حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث!!.
وإذا كان الإسلام بتعاليمه، وبهدى رسوله، قد استطاع أن يقهر هذه الشهوات في النفوس، ويخفت صوت الأهواء الداعية إليها، فإنه لن يستطيع- وما كان من همّه أن يفعل- اقتلاع هذه الشهوات من جذورها، لأنه إنما يعمل بتعاليمه، وبهدى رسوله، في حقل الإنسانية، وفي محيط الإنسان باعتباره كائنا بشريّا، من خصائصه أن يرغب، ويشتهى.
لهذا، كان من تدبير الدعوة الإسلامية أن لقيت المسلمين على أول الطريق، وهم في مواجهة هذه الفتنة التي وردت عليهم من أموال اليهود، وما ورّثهم اللّه إياه من ديارهم وأرضهم، وذراريهم ونسائهم. وكان من تدبير الإسلام الحكيم أيضا، أن يكون النبىّ صلى اللّه عليه وسلم أول من يلقى هذه الدعوة، وأول من يأخذ نفسه بها، في نفسه وفي أهله. فكان أن تلقّى أمر ربه بتخيير نسائه في الحياة معه على ما ألفن من شظف العيش في بيته، وألا ينتظرن شيئا من تغيير هذه الحال، مهما كثرت الأموال التي تساق إلى المسلمين من غنائم الحرب، سواء ما كان منهما حالا، أو مستقبلا! فإن هن رضين هذا، فذلك مما يجزيهن اللّه عليه الثواب العظيم، والأجر الكبير. وإلّا فلهن أن يطلبن سعة العيش، ومتعة الحياة الدنيا في غير بيت النبىّ. أما بيت النبىّ فلا تجتمع فيه النبوّة، ومتاع الحياة الدنيا.!.
وهكذا تلقّى المسلمون جميعا هذا الدرس الحكيم، الذي أشرف عليهم من أعلى قمة في الحياة، فلم يبق بيت من بيوتهم إلا استنار بشعاعاته، واستدفأ بضوئه! فخنست في النفوس تطلعاتها، وانجحرت في الصدور وساوسها، ورأى المسلمون- رجالا ونساء- أنهم مطالبون- وإن لم يطلب إليهم- بما أخذ به النبىّ نفسه وأهله- إذ كان النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أسوتهم ومثلهم الأعلى الذي يتمثلونه. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى، قبل هذه الآيات، وكأنه مقدمة لها: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُول اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا}.
والأسوة هنا إن لم يفرضها الدين، أوجبها العرف، وقضى به واقع الحياة في الناس. فالنبىّ، بمكانه الديني، هو رأس المسلمين، وسيّدهم، وإمامهم الذي ينفرد بمقام السيادة والإمامة، وولاية الأمر فيهم.
والنبىّ بمكانه الاجتماعى من المسلمين، هو قائدهم، وملكهم، والمتفرّد بالسلطان عليهم.
ومن هنا لم يكن لأىّ من المسلمين، بل ومن المنافقين ومن في قلوبهم مرض أن يجد سبيلا إلى غير الأسوة بالنبيّ في هذا المال الحاضر بين أيديهم، أو فيما سيقع لأيديهم منه في مستقبل الأيام.
فالمؤمنون حقا يجدون في محمد النبىّ الأسوة في الحياة الطيبة الكريمة العزوف عن زخرف الحياة ومتاعها.
والمنافقون ومن في قلوبهم مرض من المسلمين، يرون في محمد، القائد، والملك والسلطان، وقد نقض يديه من هذه الغنائم، فلم يمدّ يده إلى شيء منها هو أو أهل بيته، فلا يجرؤ أحد منهم أن يمدّ بصره إلى أكثر مما امتدّ إليه بصر الرسول إزاء هذا المال.
موقف لم يكن منه بدّ، وتدبير لم يكن عنه معدّى إلى سواه، إذا كان هذا الدين الذي جاء به محمد دينا حقا، وكان من أمر هذا الدين أن يقيم مجتمعا إنسانيا على تعاليمه، ويمسك به على شريعته.
وتعالت حكمة اللّه، وجلّ جلاله، وتبارك شأنه.!.
يقع هذا التدبير في بيئة كان الانتهاب، والسلب والخطف شريعة سائدة في كل أحيائها.
ثم يعرض على الأنظار فيها هذا المال الكثير الذي اكتنزه اليهود خلال قرون طويلة، وجمعوه من كل وجه- فلا تطمح إليه نفس، ولا تمتد إليه عين أو يد!! إنه انقلاب مزلزل في البيئة العربية. وإنه لأكثر من انقلاب أن يبدأ القائد بنفسه، ويأخذها بهذا الحكم، ثم يدع للمسلمين أن يأخذوا حظوظهم من هذا المال، وأن يقتسموه بينهم. وقد كان المتوقع أن يدور الأمر على عكس هذا، فيستأثر القائد بكل نفيس غال من هذا المغنم، جريا على ما اعتاد العرب في غاراتهم على أعدائهم. فلقائد الجماعة المنتصرة الغانمة أن يصطفى ما يشاء، من الغنيمة قبل قسمتها، وأن يعطى منها ما يشاء لمن يشاء. ثم يذهب بالربع مما بقي، ويدع ثلاثة الأرباع تقسم بين المحاربين. وفي هذا يقول شاعرهم مخاطبا قائد الحرب:
لك المرباع فينا والصفايا ** وحكمك والنشيطة والفضول

وإذا لم تكن كتب السيرة قد التفتت كثيرا إلى هذا الحدث، ولم ترصد آثاره في البيئة العربية كلها- فإن الذي لا شك فيه أنه أثار هزة عنيفة في المجتمع العربي كله، مسلمين، وغير مسلمين. والذي لا نشك فيه كذلك أنه أدار تفكير الناس جميعا إلى الإسلام، وإلى الغاية التي يقصد إليها، وأن كثيرا ممن لم يدخلوا في الإسلام، والذين كانوا على غيرة وحسد للنبىّ أن يعلو عليهم بسلطان، وأن يستطيل عليهم بدعوته وما يجمع لها من أنصار- كثير من هؤلاء قد استخزوا أمام أنفسهم، وأطفئوا بأيديهم نيران الحقد والحسد على الدين الجديد، وعلى صاحب الدعوة به فيهم. وإن الذي يمدّ بصره إلى ما بعد هذا الحدث ليرى أن الطريق مفتوح إلى فتح مكة وإلى دخول الناس في دين اللّه أفواجا، فقد كان لهذا الحدث أثره العظيم في كسر حدّة العداوة والعناد للنبىّ ولدعوته، في نفوس المشركين من قريش! إذ أن أكثر ما كان يحجز المشركين عن الاستجابة للنبىّ، هو نفورهم وإباؤهم من أن يقعوا تحت يد سلطان، يعلو عليهم، ويستبدّ بوجودهم، فلما جاءت الأحداث تخبر بأن محمدا ليس ملكا ولا أميرا، ولا طالب ملك أو إمارة- عرف المنكرون أن دعوى النبوة التي يدّعيها محمد، هي دعوة حق، لا شك فيه.
قوله تعالى: {يا نساءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضعْفَيْن وَكانَ ذلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا} تجىء هذه الآية، بعد تخيير النبىّ أزواجه. وقد اخترن اللّه ورسوله، ورضين الحياة في ظلال النبوة. فهن الآن- وبعد هذا الاختبار العملي لما في قلوبهن من إيمان- أهل لاحتمال والتبعات الملقاة على من يخالط النبي ويعاشره. وإن فهن على غير ما عليه النساء. إنهن نساء النبي، وعليهن من الواجبات فوق ما على النساء لأزواجهن. وأنه إذا كان على المرأة أن ترعى حقوق الزوجية، وأن تحفظ حرماتها، فإن على نساء النبي أن يرعين هذه الحقوق رعاية مطلقة وأن يحفظن حرماتها حفظا مبرأ من كل شائبة، بعيدا عن كل شبهة. وألا فليسمعن كلمة اللّه إليهن:
{يا نساءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضعْفَيْن وَكانَ ذلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا}.
والفاحشة: الأمر المنكر.
والمبينة: الكاشفة عن هذا المنكر.
والمراد بالفاحشة المبينة هنا، ما يخلّ بالمروءة والشرف، قولا وفعلا.
وفي الآية إشارة إلى مقام نساء النبي، وأنهن مؤاخذات بما يعفى عنه من غيرهن. لأنهن في موقع الهداية، وفي مطلع النور، فلا عذر لهن فيما يقوم لغيرهن من عذر. ومن هنا كانت صغائرهن كبائر. ومن هنا قيل: سيئات المقربين حسنات الأبرار.
ومضاعفة العذاب ضعفين، ليس ظلما في هذا الوضع، بل هو الجزاء المناسب للذنب، المقدور بقدره. وإنما هو مضاعف بالنسبة لغيرهن، ممن ليس لهن هذا الوضع الذي هن فيه. فعذاب غيرهن مراعى فيه التخفيف، فهو دون ما يستحقه الذنب، إذ كان مع غيرهن أكثر من عذر. من جهل، أو غفلة، ونحو هذا، أما هن فلا عذر لهن.
وقد يبدو أن هذا التحذير لنساء النبي، يمكن أن يلزم منه، وقوع إتيان الفاحشة المبينة من بعضهن، كما يرى ذلك بعض المفسرين. وهذا غير مراد من الآية الكريمة، وإنما المراد هو الإشارة إلى هذا المقام الكريم الذي لهن عند اللّه، وعند المؤمنين. وأن لهن مكانا خاصا، وحسابا خاصا.
وذلك مثل قوله تعالى للنبى الكريم: {لَئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (65: الزمر). وقوله تعالى: {وَإنْ تُطعْ أَكْثَرَ مَنْ في الْأَرْض يُضلُّوكَ عَنْ سَبيل اللَّه}.
(116: الأنعام) وهذا ما لا يكون من النبي أبدا، كذلك لا يكون من زوجان أن يأتين بفاحشة أبدا، وهنّ في حمى النبوّة، وفي حراسة السماء التي تظل بيت النبىّ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا}.
يستخلص مما ذكره ابن عطية رواية عن ابن الزبير ومما ذكره أبو حيان في البحر المحيط وغير ذلك: أن وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه لما فُتحت على المسلمين أرض قريظة وغنموا أموالهم وكانت أرض النضير قُبيل ذلك فَيْئًا للنبيء صلى الله عليه وسلم حسب أزواج رسول الله أن مثَلَه مَثَل أحد من الرجال إذا وُسّع عليهم الرزق توسَّعوا فيه هم وعيالهم فلم يكن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يسألنَه توسعة قبل أن يفيء الله عليه من أهل النضير وقبل أن يكون له الخمس من الغنائم، فلما رأين النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنفسه ولأزواجه أقواتهم من مال الله ورأين وفرة ما أفاءَ الله عليه من المال حسبْنَ أنه يوسّع في الإنفاق فصار بعضهُنّ يستكثرنه من النفقة كما دل عليه قول عمر لحفصة ابنته أمّ المؤمنين: لا تستكثري النبي ولا تُراجعيه في شيء وسَليني ما بَدا لك.
ولكن الله أقام رسوله صلى الله عليه وسلم مقامًا عظيمًا فلا يتعلق قلبه بمتاع الدنيا إلا بما يقتضيه قوام الحياة وقد كان يقول: «ما لي وللدنيا» وقال: «حُبّبَ إليّ من دنياكم النساء والطيب».
وقد بينتُ وجه استثناء هذين في رسالة كتبتُها في الحكمة الإلهية من رياضة الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه بتقليل الطعام.
وقال عمر: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يُوجف المسلمون عليه من خَيْل ولا ركاب فكانت لرسول الله خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عُدة للمسلمين.
وقد علمتَ أن أرض قريظة قسمت على المهاجرين بحُكْم سعد بن معاذ، فلعل المهاجرين لما اتسعت أرزاقهم على أزواجهم أمّل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يكنَّ كالمهاجرين فأراد الله أن يعلمهُنّ سيرة الصالحات في العيش وغيره.
وقد روي أن بعضهن سألْنَه أشياء من زينة الدنيا فأوحى إلى رسوله بهذه الآيات المتتابعات.
وهذا مما يؤذن به وقعُ هذه الآيات عقب ذكر وقعة قريظة وذكر الأرض التي لم يَطؤوها وهي أرض بني النضير.
وإذ قد كان شأن هذه السيرة أن يشق على غالب الناس وخاصة النساء أمَر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينبىء أزواجه بها ويخيّرهُنّ عن السّيْر عليها تبعًا لحاله وبين أن يفارقَهُنّ.
لذا فافتتاحُ هذه الأحكام بنداء النبي صلى الله عليه وسلم ب: {يا أيها النبي} تنبيه على أن ما سيذكر بعد النداء له مزيد اختصاص به وهو غرض تحديد سيرة أزواجه معه سيرة تناسب مرتبة النبوءة، وتحديد تزوجه وهو الغرض الثاني من الأغراض التي تقدم ذكرها في قوله: {يا أيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1].
والأزواج المعنيات في هذه الآية هن أزواجه التسع اللاتي تُوفّي عليهن.
وهن: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سَلَمة بنت أمية المخزومية، وجويرية بنت الحارث الخزاعية، وميمونة بنت الحارث الهلالية من بني عامر بن صعصعة، وسَوْدة بنت زَمعة العامرية القرشية، وزينبُ بنت جَحْش الأسدية، وصفية بنت حُيَيّ النضيرية.
وأما زينب بنت خزيمة الهلالية الملقبة أمّ المساكين فكانت متوفاة وقت نزول هذه الآية.
ومعنى {إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} إن كنتن تُؤثرن ما في الحياة من الترف على الاشتغال بالطاعات والزهد، فالكلام على حذف مضاف يقدر صالحًا للعموم إذ لا دليل على إرادة شأن خاص من شؤون الدنيا.
وهذه نكتة تعدية فعل {تُردْنَ} إلى اسم ذات {الحياة} دون حال من شؤونها.